المادة    
ومن القواعد والضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الإنكار على العالم أو على الفقيه أو على الكبير الفاهم ليس كالإنكار على المبتدأ وحديث العهد بالمعصية والجاهل.
أرأيتم لو أن أحداً من خيار الصحابة رضي الله تعالى عنهم جاء وبال في المسجد -وحاشاهم من ذلك- كيف يكون الإنكار عليه؟! سوف يكون شديداً؛ لأن هذا أمر لا يمكن أن يفعله إنسان من خيار الصحابة ممن عرف الإيمان وحقيقته، فسوف يكون الإنكار عليه بأشد ما يمكن، وبذلك وقائع من السيرة، كإنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي ذر لما قال لـبلال: يا ابن السوداء، فأنكر عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكاراً شديداً وقال له: {يا أبا ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية} فهذا إنكار شديد، فالجاهلية التي هرب وخرج منها أبو ذر رضي الله تعالى عنه وتحمل المشاق، وجاء إلى الكعبة، وجاهر بالإيمان، وضُرب حتى أصبح كما يقول هو: [[كأنه صنم ذبح عليه ]] من كثرة ما فيه من الدماء، وكل ذلك لذات الله ومن أجل الله، ويقول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إنك امرؤ فيك جاهلية } لأنك أمام إنسان يعرف الحق وعرف الجاهلية، وعرف قذارتها، وعرف نتنها، وعرف كيف يفر منها كما يفر من النار أو من الأسد، فتقول له هذا الكلام ليرتدع.
لكن لما جاء الأعرابي وبال في المسجد، فهذا أعرابي جاهل لا يفقه من أمر الله ودينه شيئاً، دخل وبال في المسجد، فأرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمنا أن الإنكار على الجاهل يختلف، فهذا نلاطفه، ونلاينة، ونداريه، ولا نعنفه.
  1. مثال توضيحي للقاعدة

    فنجد في قصة هذا الأعرابي ما يشهد بهاتين القاعدتين:
    القاعدة الأولى: تحمل أهون المفسدتين لدرء أعظمهما.
    والثانية: إن الجاهل لا يكون الإنكار عليه كالإنكار على العالم وعلى ذي الشأن.
    فلو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزجر الصحابة وينههم عندما ثاروا عليه ليزجروه عن البول في المسجد، لانتشر البول في أجزاء كثيرة نتيجة فزع الأعرابي وهربه، بل وسينتثر البول في ملابسه، وربما لا يعود إلى المسجد وإلى الإيمان.
    إذاً نتحمل المفسدة من أجل أن ندفع مفسدة أكبر منها، فهذا شيء.
    والأمر الآخر أن هذا الإنسان جاهل، والجاهل نرفق به، كما منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة أن يضربوه، وأمر أن يغير المنكر، بصب دلو من الماء على البول وانتهت النجاسة.
    فالآن قضينا على النجاسة، وبقي أن نقضي على ما في قلب هذا الرجل، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال معاوية بن الحكم السلمي: {والله ما كهرني ولا نهرني، بأبي وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً مثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} فلا يوجد معلم أرفق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحكم، فلما رأى الأعرابي هذا الرفق وهذه المعاملة ممن كان يظن أنه أكثر الناس شدة -ولا شك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أكثر الناس محافظة على بيوت الله، وأكثر الناس قوة في الحق، لكنه كان يوازن بين المصالح والمفاسد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى منه اللطف واللين صلى فقال: {اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحد}.
    وذلك لأن القلب ما تزال فيه ضغينة لهؤلاء الذين ثاروا عليه، وأظهروه مظهر الإنسان الذي لا يليق، ولكن دعا أن يرحم الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو المطلوب، وهو أن يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان ذلك، ولكن أيضاً نحن لا ينبغي أن نجفو قلوب الناس عنا، فالجاهل نعلمه ونترفق به، ونبين له.
    وكما ينقل في سيرة الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا ذاهبين إلى المسجد، فدخل رجل يتوضأ فلم يحسن الوضوء، وهما صبيان صغيران فقالا له: أيها الشيخ! نحن طفلان صغيران واختلفنا كيف نتوضأ، فاحكم بيننا لترى أي منا يتوضأ أحسن من الآخر، فتوضأ الأول كما توضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوضأ الآخر كما يتوضأ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قالا له: احكم، فقال: أحكم بأنكما توضأتما على السنة وأنا لا أحسن الوضوء. فعلماه كيف أنه يجب على الإنسان أن يتوضأ، وهو بنفسه عرف خطأه.
    فإذا استطعنا أن نعرَّف الإنسان خطأه بنفسه فهذا مكسب لنا، ونكون قد كسبنا قلبه ومع ذلك عرف الحق، وسيتبعه بإذن الله تبارك وتعالى.